الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (260): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} دليلٌ آخرُ على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجِه لهم من الظلمات إلى النور وإنما لم يسلُك به مسلكَ الاستشهاد كما قبله بأن يقال أو كالذي قال: ربِّ إلخ لجَرَيان ذكره عليه السلام في أثناء المُحاجَّة ولأنه لا دخْلَ لنفسه عليه السلام في أصل الدليل كدأب عُزيرٍ عليه السلام فإن ما جَرى عليه من إحيائه بعد مائةِ عامٍ من جملة الشواهد على قدرته تعالى وهدايته، والظرفُ منتصبٌ بمُضمرٍ صُرِّح بمثله في نحو قوله تعالى: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء} أي واذكر وقت قوله عليه السلام وما وقع حينئذ من تعاجيب صنعِ الله تعالى لتقِفَ على ما مرَّ من ولايته تعالى وهدايته. وتوجيهُ الأمرِ بالذكر في أمثال هذه المواقعِ إلى الوقت دون ما وقع فيه من الواقعات مع أنها المقصودة بالتذكير لما ذُكر غير مرة من المبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجابَ ذكرِ الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها مفصّلةً فإذا استُحضِرَ كانت حاضرةً بتفاصيلها بحيث لا يشِذُّ عنها شيءٌ مما ذكر عند الحكاية أو لم يُذْكَرْ كأنها مشاهدةٌ عِياناً {رَبّ} كلمة استعطافٍ قُدّمت بين يدي الدعاء مبالغةً في استدعاء الإجابة {أَرِنِى} من الرؤية البَصَرية المتعدِّية إلى واحدٍ وبدخول همزةِ النقل طلبَتْ مفعولاً آخرَ هو الجملةُ الاستفهامية المعلِّقةُ لها فإنها تعلِّق كما يُعلَّق النظرُ البصَريُّ أي اجعلني مبصراً {كَيْفَ تُحْىِ الموتى} بأن تحيِيهَا وأنا أنظرُ إليها، وكيف في محل نصبٍ على التشبيه بالظرف عند سيبويه، وبالحال عند الأخفش، والعاملُ فيها تحيي أي في أيِّ حال أو على أيِّ حالٍ تحيي. قال القرطبيُّ: الاستفهامُ بكيف إنما هو سؤالٌ عن حال شيءٍ متقررِ الوجود عند السائلِ والمسؤولِ، فالاستفهامُ هاهنا عن هيئة الإحياءِ المتقرّر عند السائل أي بصِّرْني كيفيةَ إحيائِك للموتى، وإنما سأله عليه السلام ليتأيّد إيقانُه بالعِيان ويزدادَ قلبُه اطمئناناً على اطمئنان، وأما ما قيل من أن نمرودَ لما قال: أنا أحيي وأميت قال إبراهيمُ عليه السلام: «إن إحياءَ الله تعالى بردِّ الأرواح إلى الأجساد» فقال نمرودُ: هل عاينتَه فلم يقدِرْ على أن يقول: نعم فانتقل إلى تقريرٍ آخرَ ثم سأل ربه أن يُرِيَه ذلك فيأباه تعليلُ السؤال بالاطمئنان.{قَالَ} استئناف كما مر غيرَ مرة {أَوَلَمْ تُؤْمِن} عطفٌ على مقدرٍ أي ألم تعلمْ ولم تؤمنْ بأني قادرٌ على الإحياء كيف أشاء حتى تسألَني إراءتَه قال عز وعلا وهو أعلم بأنه عليه السلام أثبتُ الناسِ إيماناً وأقواهم يقيناً: ليجيبَ بما أجاب به فيكون ذلك لطفاً للسامعين {قَالَ بلى} علِمت وآمنتُ بأنك قادر على الإحياء على أي كيفية شئت {ولكن} سألت ما سألت {لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} بمُضامَّة العِيانِ إلى الإيمان والإيقان وأزدادَ بصيرةً بمشاهدته على كيفية معينة.{قَالَ فَخُذْ} الفاءُ لجواب شرطٍ محذوف أي إن أردت ذلك فخُذ {أَرْبَعَةً مّنَ الطير} قيل: هو اسمٌ لجمعِ طائر، كرَكْبٍ وسَفْرٍ وقيل: جمعٌ له كتاجرٍ وتَجْرٍ وقيل: هو مصدرٌ سمي به الجنسُ وقيل: هو تخفيفُ طيّرٍ بمعنى طائر كهيْنٍ في هيّن، ومِنْ متعلقة بخُذ أو بمحذوف وقع صفةً لأربعةً أي أربعةً كائنة من الطير، قيل: هي طاووسٌ وديكٌ وغرابٌ وحَمامةٌ وقيل: نَسْرٌ بدلَ الأخير، وتخصيصُ الطير بذلك لأنه أقربُ إلى الإنسان وأجمعُ لخواصِّ الحيوان ولسهولةِ تأتيِّ ما يُفعلُ به من التجزئة والتفريق وغيرِ ذلك {فَصُرْهُنَّ} من صارَه يصورُه أي أماله وقرئ بكسر الصاد من صاره يَصيره، أي أمِلْهن واضمُمْهن وقرئ {فصُرَّهن} بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من صرَّه يصِرُّه ويصُره إذا جمعه وقرئ {فصَرِّهِنّ} من التَّصْرية بمعنى الجمع أي اجمَعْهن {إِلَيْكَ} لتتأملَها وتعرِفَ شِياتِها مفصَّلةً حتى تعلم بعد الإحياءِ أن جزءاً من أجزائها لم ينتقِلْ من موضعه الأول أصلاً، روي أنه أُمر بأن يذبَحها وينتِفَ ريشها ويقطّعها ويفرِّق أجزاءها ويخلِطَ ريشها ودماءَها ولحومَها ويمسك رؤسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} أي جزِّئهن وفرِّق أجزاءَهن على ما بحضرتك من الجبال قيل: كانت أربعة أجبُل وقيل: سبعة، فجعل على كل جبل رُبُعاً أو سُبعاً من كل طائر، وقرئ {جُزُؤاً} بضمتين وجُزّاً بالتشديد بطرح همزته تخفيفاً ثم تشديدِه عند الوقف ثم إجراءِ الوصل مْجرى الوقف.{ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ} في حيز الجزمِ على أنه جواب الأمر ولكنه بُني لاتصاله بنون جمع المؤنث {سَعْيًا} أي ساعيات مسرعات أو ذواتِ سعيٍ طيراناً أو مشياً وإنما اقتصر على حكاية أوامره عز وجل من غير تعرضٍ لامتثاله عليه السلام ولا لما ترتب عليه من عجائب آثارِ قدرتِه تعالى كما روي أنه عليه السلام نادى فقال: «تعالَيْنَ بإذن الله» فجعل كلُّ جزءٍ منهن يطير إلى صاحبه حتى صارت جثثاً ثم أقبلْن إلى رؤوسهن فانضمَّتْ كلُّ جثةٍ إلى رأسها فعادت كلُّ واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة للإيذان بأن ترتب تلك الأمورِ على الأوامر الجليلةِ واستحالةَ تخلّفها عنها من الجلاء والظهورِ بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلاً وناهيك بالقصة دليلاً على فضل الخليل ويُمْنِ الضراعة في الدعاء وحُسنِ الأدب في السؤال حيث أراه الله تعالى ما سأله في الحال على أيسرِ ما يكون من الوجوه وأرى عُزيراً ما أراد بعدما أماته مائة عام {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره لا يُعجزُه شيء عما يريده {حَكِيمٌ} ذو حكمةٍ بالغة في أفاعيله فليس بناءُ أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن إيجادها بطريق آخرَ خارقٍ للعادات بل لكونه متضمناً للحِكَم والمصالح..تفسير الآيات (261- 262): {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}{مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله} أي في وجوه الخيرِ من الواجب والنفل {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} لابد من تقديرِ مضافٍ في أحد الجانبين أي مَثلُ نفقتِهم كمثلِ حبةً أو مَثلُهم كمَثلِ باذرِ حبة {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} أي خرَّجت ساقاً تشعّب منها سبعُ شُعبٍ لكل واحدة منها سنبلة {فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ} كما يشاهَد ذلك في الذُرة والدخن في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك، وإسنادُ الإنباتِ إلى الحبة مجازيٌ كإسناده إلى الأرض والربيع، وهذا التمثيلُ تصويرٌ للأضعاف كأنها حاضرةٌ بين يدَي الناظر {والله يضاعف} تلك المضاعفةَ أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى {لِمَن يَشَاء} أن يضاعِفَ له بفضله على حسب حالِ المنفِق من إخلاصه وتعبِه ولذلك تفاوتت مراتبُ الأعمال في مقادير الثواب {والله واسع} لا يَضيقُ عليه ما يتفضّل به من الزيادة {عَلِيمٌ} بنية المنفقِ ومقدارِ إنفاقِه وكيفيةِ تحصيلِ ما أنفقه {الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله} جملةٌ مبتدأةٌ جيء بها لبيان كيفيةِ الإنفاق الذي بُيِّن فضلُه بالتمثيل المذكور {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ} أي ما أنفقوه أو إنفاقَهم {مَنّا وَلا أَذًى} المن أن يَعتدَّ على مَنْ أحسن إليه بإحسانه ويُريَه أنه أوجبُ بذلك حقاً والأذى أن يتطاولَ عليه بسبب إنعامه عليه وإنما قُدم المن لكثرة وقوعِه، وتوسيطُ كلمة {لا} للدَلالة على شمول النفي لإتباع كل واحدٍ منهما و{ثُمَّ} لإظهار علوِّ رتبة المعطوف، قيل: نزلت في عثمان رضي الله عنه حين جهز جيش العُسرة بألفِ بعير بأقتابها وأحلاسها وعبدِ الرحمن بنِ عوف رضي الله عنه حين أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقةً ولم يكَدْ يخطُر ببالها شيءٌ من المن أو الأذى {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي حسبما وُعدَ لهم في ضمن التمثيل، وهو جملةٌ من مبتدأ وخبر وقعت خبراً عن الموصول، وفي تكرير الإسناد وتقييدِ الأجر بقوله: {عِندَ رَبّهِمْ} من التأكيد والتشريفِ ما لا يخفى، وتخليةُ الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن ترتبَ الأجر على ما ذكر من الإنفاق وتركَ إِتباعِ المن والأذى أمرٌ بيِّن لا يحتاج إلى التصريح بالسببية وأما إيهامُ أنهم أهلٌ لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا فيأباه مقامُ الترغيب في الفعل والحث عليه {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لحوق مكروهٍ من المكاره {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لفوات مطلوبٍ من المطالب قلَّ أو جلَّ، أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزن أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرور، كيف لا واستشعارُ الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله وهيبته واستقصاراً للجِد والسعي في إقامة حقوقِ العبودية من خواصِّ الخاصةِ والمقرَّبين، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعاً عالماً أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيدُ الدوام والاستمرار بحسب المقام..تفسير الآيات (263- 264): {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أي كلام جميل تقبله القلوبُ ولا تُنكِره يُرد به السائلُ من غير إعطاء شيءٍ {وَمَغْفِرَةٌ} أي سَترٌ لما وقع من السائل من الإلحاف في المسألة وغيره مما يَثقُل على المسؤول وصفحٌ عنه. وإنما صح الابتداءُ بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة أي ومغفرة كائنة من المسؤول {خَيْرٌ} أي للسائل {مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} لكونها مشوبةً بضررِ ما يتبعها وخلوصِ الأولَيْن من الضرر، والجملة مستأنفةٌ مقرِّرة لاعتبار ترك إتباعِ المن والأذى، وتفسيرُ المغفرة بنيل مغفرةٍ من الله تعالى بسبب الرد الجميل أو بعفو السائل بناءً على اعتبار الخيرية بالنسبة إلى المسؤول يؤدّي إلى أن يكون في الصدقة الموصوفةِ بالنسبة إليه خيرٌ في الجملة مع بطلانها بالمرة {والله غَنِىٌّ} لا يُحوِجُ الفقراءَ إلى تحمل مؤنةِ المنِّ والأذى ويرزقُهم من جهةٍ أخرى {حَلِيمٌ} لا يعاجل أصحابَ المن والأذى بالعقوبة لا أنهم لا يستحقونها بسببهما، والجملةُ تذييلٌ لما قبلها مشتمِلٌ على الوعد والوعيد مقرِّرٌ لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعاً. {يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أقبل عليهم بالخطاب إثرَ بيانٍ ما بطريق الغَيبة مبالغةً في إيجاب العمل بموجب النهي {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والاذى} أي لا تُحبِطُوا أجرَها بواحدٍ منهما {كالذى} في محل النصب إما على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا تُبطِلوها إبطالَ الذي {يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس} وإما على أنه حالٌ من فاعل لا تُبطلوها مشابهين الذي ينفق، أي الذي يُبطل إنفاقَه بالرياء، وقيل من ضمير المصدر المقدر على ما هو رأيُ سيبويه، وانتصابُ رئاءَ إما على أنه عِلةٌ لينفق أي لأجل رئائهم أو على أنه حال من فاعله أي ينفق ماله مرائياً والمراد به المنافقُ لقوله تعالى: {وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر} حتى يرجوَ ثواباً أو يخشى عقاباً.{فَمَثَلُهُ} الفاء لربط ما بعدها بما قبلها أي فمثل المرائي في الإنفاق وحالته العجيبة {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} أي حَجَرٍ أملسَ {عَلَيْهِ تُرَابٌ} أي شيء يسير منه {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} أي مطرٌ عظيمُ القطر {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أملسَ ليس عليه شيءٌ من الغبار أصلاً {لاَّ يَقْدِرُونَ على شيء مّمَّا كَسَبُواْ} لا ينتفعون بما فعلوا رياءً، ولا يجدون له ثواباً قطعاً كقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} والجملة استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل: فماذا يكونُ حالُهم حينئذٍ فقيل: لا يقدِرون إلخ ومن ضرورة كونِ مَثَلِهم كما ذُكر كونُ مَثَلِ من يُشبِهُهم وهم أصحابُ المن والأذى كذلك والضميران الأخيران للموصول باعتبار المعنى كما في قوله عز وجل: {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} لما أن المراد به الجنسُ أو الجمعُ أو الفريق كما أن الضمائرَ الأربعةَ السابقة له باعتبار اللفظ {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} إلى الخير والرشاد، والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله، وفيه تعريضٌ بأن كلاًّ من الرياء والمنِّ والأذى من خصائص الكفارِ ولابد للمؤمنين أن يجتنبوها..تفسير الآية رقم (265): {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}{وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتَ الله} أي لطلب رضاه {وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ} أي ولتثبيت بعضِ أنفسِهم على الإيمان فمن تبعيضية كما في قولهم: هزّ مِنْ عِطفه وحرك مِنْ نشاطه فإن المالَ شقيقُ الروح فمن بذل مالَه لوجه الله تعالى فقد ثبّت بعضَ نفسه ومن بذل مالَه وروحَه فقد ثبتها كلها، أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسِهم فمن ابتدائية كما في قوله تعالى: {حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} ويحتمل أن يكون المعنى وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقةُ الإيمان مخلصةٌ فيه، ويعضُده قراءةُ من قرأ وتبييناً من أنفسهم وفيه تنبيهٌ على أن حكمةَ الإنفاق للمنفق تزكيةُ النفس عن البخل وحبِّ المال الذي هو رأسُ كل خيئة.{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الرَّبوة بالحركات الثلاث وقد قرئ بها المكانُ المرتفع أي مثَلُ نفقتِهم في الزكاء كمثل بُستان كائنٍ بمكان مرتفعٍ مأمونٍ من أن يصطلِمَه البردُ لِلطافة هوائهِ بهبوب الرياحِ المُلطّفة له فإن أشجارَ الرُبا تكون أحسنَ منظراً وأزكى ثمراً وأما الأراضي المنخفضةُ فقلما تسلم ثمارُها من البرد لكثافة هوائِها بركود الرياحِ وقرئ {كمثل حبةٍ} {أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر عظيمُ القطر {فَأَتَتْ أُكُلَهَا} ثمرتها وقرئ بسكون الكاف تخفيفاً {ضِعْفَيْنِ} أي مِثليْ ما كانت تُثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل، والمرادُ بالضِعف المِثْلُ وقيل: أربعةُ أمثال، ونصبُه على الحال من {أُكُلُهَا} أي مضاعفاً {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي فطلٌ يكفيها لجودتها وكَرَمِ منبتِها ولَطافةِ هوائِها وقيل: فيصيبها طلٌّ وهو المطرُ الصغيرُ القطرِ وقيل: فالذي يصيبها طلٌّ والمعنى أن نفقاتِ هؤلاءِ زاكيةٌ عند الله تعالى لا تَضيعُ بحال وإن كانت تتفاوتُ باعتبار ما يقارنها من الأحوال، ويجوزُ أن يعتبر التمثيلُ بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرةِ والقليلةِ وبين الجنةِ المعهودةِ باعتبار ما أصابها من المطر الكثير واليسير، فكما أن كلَّ واحد من المطرين يُضعِفُ أُكُلَها فكذلك نفقتُهم جلّت أو قلَّت بعد أن يُطلَبَ بها وجهُ الله تعالى زاكيةٌ زائدةٌ في زُلفاهم وحسنِ حالهم عند الله {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيء منه وهو ترغيبٌ في الإخلاص مع تحذير من الرياء ونحوه..تفسير الآية رقم (266): {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الوُدُّ حبُّ الشيء مع تمنِّيه ولذلك يُستعمل استعمالَهما والهمزةُ لإنكار الوقوع كما في قوله: أأضرب أبي؟ لا لإنكار الواقع كما في قولك: أتضرب أباك؟ على أن مناطَ الإنكارِ ليس جميعَ ما تعلّق به الوُدّ بل إنما هو إصابةُ الإعصارِ وما يتبعُها من الاحتراق {أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} وقرئ {جناتٌ} {مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي كائنةٍ منهما على أن يكون الأصلُ والركنُ فيها هذين الجنسينِ الشريفينِ الجامعين لفنون المنافع والباقي من المستتبِعات لا على ألا يكونَ فيها غيرُهما كما ستعرِفه، والجنَّةُ تطلق على الأشجار الملتفة المتكاتفة قال زهير:وعلى الأرض المشتملةِ، عليها والأولُ هو الأنسبُ بقوله عز وجل: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} إذ على الثاني لابد من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارها وكذا لابد من جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازياً، والجملةُ في محل الرفع على أنها صفةُ جنةٍ كما أن قوله تعالى: {مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} كذلك أوفى محل النصب على أنها حالٌ منها لأنها موصوفة {لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات} الظرفُ الأولُ خبرٌ والثاني حالٌ والثالثُ مبتدأ أي صفة للمبتدأ قائمة مَقامه أي له رزقٌ من كل الثمرات كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} أي وما منا أحد إلا له إلخ وليس المرادُ بالثمرات العمومَ بل إنما هو التكثيرُ كما في قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} {وَأَصَابَهُ الكبر} أي كِبَرُ السنِّ الذي هو مَظِنَّةُ شدَّةِ الحاجة إلى منافعها ومئنة كمالِ العجز عن تدارُك أسبابِ المعاش، والواو حالية أي وقد أصابه الكبر {وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء} حالٌ من الضمير في أصابه أي أصابه الكِبَرُ والحال أن له ذريةٌ صِغاراً لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادئ المعاش وقرئ {ضعاف} {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} أي ريحٌ عاصفةٌ تستدير في الأرض ثم تنعكس منها ساطعةً إلى السماء على هيئة العَمود {فِيهِ نَارٌ} شديدةٌ {فاحترقت} عطفٌ على {فأصابها} وهذا كما ترى تمثيلٌ لحال من يعمل أعمالَ البرِّ والحسناتِ ويضُمُّ إليها ما يُحبِطُها من القوادح ثم يجدُها يوم القيامة عند كمال حاجته إلى ثوابها هباءً منثوراً بها في التحسّر والتأسّف عليها {كذلك} توحيدُ الكاف مع كون المخاطَب جمعاً قد مر وجهُه مراراً أي مثلَ ذلك البيان الواضحِ الجاري في الظهور مجرى الأمورِ المحسوسة {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العِبَر وتعملوا بموجبها.
|